قروا عيونا
وَإِذَا اسْتَقَرُّوا عِنْدَ مَالِكَةِ الْقِرَى قَرُّوا عُيُوناً بَدْأَةً وَخِتَامَا 68/3
نواصل الحديث عن الصالحين استكمالاً للعددين السابقين فهل لنا أن نقول بعد أن تلظوا بالمحبة من شدة الشوق إلى محبوبهم طالبين الارتقاء والقرب يقول عنهم الإمام فخر الدين :
وَإِذَا اسْتَقَرُّوا عِنْدَ مَالِكَةِ الْقِرَى قَرُّوا عُيُوناً بَدْأَةً وَخِتَامَا 68/3
والآيات تقول على لسانهم ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ الفرقان: 74.
نبدأ بالشريعة: يقول الإمام الطبرى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾، يقول تعالى ذكره: والذين يرغبون إلى الله فى دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك: عن ابن عباس، قوله: ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾، يعنون: من يعمل لك بالطاعة فتقرّ بهم أعيننا فى الدنيا والآخرة.
حدثنى أحمد بن المقدام، قال: ثنا حزم، قال: سمعت كثيراً سأل الحسن، قال: يا أبا سعيد، قول الله ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾، فى الدنيا والآخرة؟ قال: لا بل فى الدنيا. قال: وما ذاك؟ قال: المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله. وقال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله. وعن ابن جُرَيج قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك،ولا يجرُّون الجرائر. قال ابن زيد: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
وعن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير، عن أبيه، قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله على أشدّ حالة بُعث عليها نبى من الأنبياء فى فترة وجاهلية، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه فى النار، وإنها للتى قال الله ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾… الآية.
وقوله ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾، اختلف أهل التأويل فى تأويله، فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أئمة يَقْتَدِى بنا من بعدنا. وذكر من قال ذلك:
عن ابن عباس، قال: أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيم ﴿إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ البقرة: 124.
وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للمتقين إماماً: نأتمّ بهم، ويأتمّ بنا من بعدنا. وذكر من قال ذلك:
عن مجاهد قال: أئمة نقتدى بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا. وقال أيضا: اجعلنا مؤتمين بهم، مقتدين بهم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين فى ذلك بالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا فى الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما، وقال ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾، ولم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر قال فى اللسان: وقوله تعالى ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾، قال أبو عبيدة: هو واحد يدل على الجمع. أ هـ.
أما التأويل فقد قال السيد محيى الدين بن عربى : ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً • أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً • خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً • قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً﴾ الفرقان: 74-77، ثم وصف طلبهم للترقى عن مقام القلب إلى مرتبة السابقين والاستعانة بالله عن تلوين النفس وصفاتها لينخرطوا فى سلك المقرّبين بقوله ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ﴾، أزواج نفوسنا وذريّات قوانا ما تقرّ به أعيننا من طاعاتهم وانقيادهم خاضعين، وتنوّرهم بنور القلب مخبتين غير طالبين للاستعلاء والترفع والاستكبار والتجبر ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ﴾، أى: المجرّدين ﴿إِمَاماً﴾، بالوصول إلى مقام السابقين ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ﴾، غرفة الفردوس وجنة الروح بصبرهم مع الله وفى الله عن غيره ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً﴾، خلود حياة ﴿وسلاماً﴾، سلامة وبراءة عن الآفات، أى: يحييهم الله بإبقائهم سرمداً ببقائه ويسلمهم بإيتائهم كماله كما قيل ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ الأحزاب: 44، أ هـ.
فطلبهم أن تقر عيونهم بأزواجهم وذرياتهم شريعة نقربها والحمد لله ولكن الله يخاطب المتشرعين والمتحققين بخطاب واحد فى اللفظ مختلف فى المعانى، وقد علم كل أناس مشربهم فلا عجب فإنها قدرته وعظمته تعالى الله بعلمه وحكمته عن علم العلماء وحكمة الحكماء لذلك فاهل الحقيقة يرون من المعانى ما يراه اهل الشرع ويقرون به ويصدقون ولكنهم لعلو شأنهم وعلو همتهم يرون من المعان العالية التأويلية شيئاً آخر فهل من مصدق؟
يقول المولى تبارك وتعالى ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ المرسلات: 15، ولم يقل للكذابين.
فمِن الذى رآه السيد محيى الدين ما قلناه سابقاً “شئ آخر” وهو أن الأزواج تعنى أيضاً النفوس والذرية تعنى قوى الإنسان فإذا استعملهم فى طاعة الله كانوا قرة عين له وكأن الشيخ يقول: إن غرفة الفردوس وجنة الروح التى فيها نعيم القرب هى التى تملك هذا القرى والكرم فهى التى تسعد هؤلاء الصالحين وأمثالهم وهى التى ملكها المولى تبارك وتعالى قراهم ونعيمهم وهى التى يلقون فيها الحياة الخالدة والكمال والسلامة من الآفات فكيف لا تقر عيونهم.
اللهم انا نسألك من هذا القرى لنا جميعاً ولأحبابنا آمين. وصلى الله على سيدنا محمد س يد المرسلين ورحمة الله للعالمين وآله وصحبه أجمعين.